فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قال أوْسطُهُمْ ألمْ أقُلْ لكُمْ لوْلا تُسبِّحُون (28)} أي أحسنهم وأرجحهم عقلا ورأيا أو أوسطهم سنا {أوْسطُهُمْ ألمْ أقُلْ لّكُمْ لوْلا تُسبّحُون} أي لو لا تذكرون الله تعالى وتتوبون إليه من خبث نيتكم وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك اذكروا الله تعالى وتوبوا إليه عن هذه النية الخبيثة من فوركم وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة فعصوه فعيرهم ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {قالواْ سبحان ربّنا إِنّا كُنّا ظالمين} لأن التسبيح ذكر لله تعالى وانا كنا إلخ ندامة واعتراف بالذنب فهو توبة والظاهر أنهم إنما تكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به على أثر مقارفة الخطيئة ولكن بعد خراب البصرة وقيل المراد بالتسبيح الاستثناء لالتقائهما في معنى التعظيم لله عز وجل لأن الاستثناء تفويض إليه سبحانه والتسبيح تنزيه له تعالى وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم فكأنه قيل ألم أقل لكم لولا تستثنون أي تقولون إن شاء الله تعالى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى وابن المنذر عن ابن جريج وحكاه في البحر عن مجاهد وأبي صالح انهما قالا كان استثناؤهم في ذلك الزمان التسبيح كما نقول نحن إن شاء الله تعالى وجعله بعض الحنفية استثناء اليوم فعنده لو قال لزوجته أنت طالق سبحان الله لا تطلق ونسب إلى الإمام ابن الهمام وادعى أنه قاله في فتاويه ووجه بأن المراد بسبحان الله فيما ذكر أنزه الله عز وجل من أن يخلق البغيض إليه وهو الطلاق فإنه قد ورد أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق وأنكر بعض المتأخرين نسبته إلى ذلك الإمام المتقدم ونفى أن يكون له فتاوي واعترض التوجيه المذكور بما اعترض وهو لعمري أدنى من أن يعترض عليه وأنا أقول أولى منه قول النحاس في توجيه جعل التسبيح موضع الاستثناء ان المعنى تنزيه الله تعالى أن يكون شيء إلا بمشيئته وقد يقال لعل من قال ذلك بنى الأمر على صحة ما روي وان شرع من قبلنا شرع لنا إذا قصه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم علينا من غير نكير وهذا على علاته أحسن مما قيل في توجيهه كما لا يخفى وقيل المعنى لولا تستغفرون ووجه التجوز يعلم مما تقدم.
{فأقْبل بعْضُهُمْ على بعْضٍ يتلاومون} يلوم بعضهم بعضا فإن منهم على ما قيل من أشار بذلك ومنهم من استصوبه ومنهم من سكت راضيا به ومنهم من أنكره ولا يأبى ذلك إسناد الأفعال فيما سبق إلى جميعهم لما علم في غير موضع.
{قالواْ يا ياويلنا إِنّا كُنّا طاغين} متجاوزين حدود الله تعالى {عسى ربُّنا أن يُبْدِلنا} أي يعطينا بدلا منها ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة {خيْرا مّنْها} أي من تلك الجنة {إِنّا إلى ربّنا} لا إلى غيره سبحانه {راغبون} راجون العفو طالبون الخير وإلى لانتهاء الرغبة أو لتضمنها معنى الرجوع وعن مجاهد انهم تابوا فابدلوا خيرا منها وروي أنهم تعاقدوا وقالوا إن أبدلنا الله تعالى خير منها لنصنعن كما صنع أبونا فدعوا الله عز وجل وتضرعوا إليه سبحانه فابدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها وقال ابن مسعود بلغني أن القوم دعوا الله تعالى وأخلصوا وعلم الله تعالى منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل على البغل منها عنقود وقال أبو خالد اليماني ورأيت تلك الجنة وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم واستظهر أبو حيان أنهم كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا وحكى عن بعض أنهم كانوا من أهل الكتاب وعن التستري أن المعظم يقولون انهم تابوا وأخلصوا وتوقف الحسن في إيمانهم فقال لادري أكان قولهم {إنا إلى ربنا راغبون} إيمانا أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة وسئل قتادة عنهم أهم من أهل الجنة أم من أهل النار فقال للسائل لقد كلفتني تعتا وقرأ نافع وأبو عمرو {يبدلنا} مشددا {كذلِك العذاب} جملة من مبتدأ وخبر مقدم لإفادة القصر وال للعهد أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة من الجدب الشديد وأصحاب الجنة مما قص عذاب الدنيا والكلام قيل وارد تحذيرا لهم كأنه لما نهاه سبحانه عن طاعة الكفار وخاصة رؤسائهم ذكر عز وجل أن تمردهم لما أتوه من المال والبنين وعقب جل وعلا بأنهما إذا لم يشكرا المنعم عليهما يؤل حال صاحبهما إلى حال أصحاب الجنة مدمجا فيه أن خبث النية والزوى عن المساكين إذا أفضى بهم إلى ما ذكر فمعاندة الحق تعالى بعناد من هو على خلقه وأشرف الموجودات وقطع رحمه أولى بأن يفضي بأهل مكة إلى البوار وقوله تعالى: {ولعذابُ الآخرة أكْبرُ} أي أعظم وأشد تحذير عن العناد بوجه أبلغ وقوله سبحانه: {لوْ كانُواْ يعْلمُون} نعى عليهم بالغفلة أي لو كانوا من أهل العلم لعلموا أنه أكبر ولأخذوا منه حذرهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قال أوْسطُهُمْ ألمْ أقُلْ لكُمْ لوْلا تُسبِّحُون (28)}
و {أوسطهم} أفضلهم وأقربهم إلى الخير وهو أحد الإِخوة الثلاثة.
والوسط: يطلق على الأخْير الأفضلِ، قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143]، وقال: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوُسطى} [البقرة: 238] ويقال هو من سِطة قومه، وأعطني من سِطة مالِك.
وحكي هذا القول بدون عاطف لأنه قول في مجرى المحاورة جوابا عن قولهم {بل نحن محرومون} قاله لهم على وجه توقيفهم على تصويب رأيه وخطل رأيهم.
والاستفهام تقريري و{لولا} حرف تحضيض.
والمراد بـ {تسبحون} تنزيه الله عن أن يُعصى أمره في شأن إعطاء زكاة ثمارهم.
وكان جوابهم يتضمن إقرارا بأنه وعظهم فعصوه ودلوا على ذلك بالتسبيح حين ندمِهم على عدم الأخذ بنصيحته فقالوا: {سبحان ربّنا إنا كنا ظالمين} أرادوا إجابة تقريره بإقرار بتسبيح الله عن أن يُعصى أمره في إعطاء حق المساكين فإن من أصول التوبة تدارك ما يمكن تداركه، واعترافهم بظلم المساكين من أصول التوبة لأنه خبر مستعمل في التندم، والتسبيح مقدمة الاستغفار من الذنب قال تعالى: {فسبح بحمد ربّك واستغفره إنه كان توابا} [النصر: 3].
وجملة {إنا كنا ظالمين} إقرار بالذنب، والتأكيد لتحقيق الإِقرار والاهتمام به.
ويفيد حرفُ (إنّ) مع ذلك تعليلا للتسبيح الذي قبله.
وحذف مفعول {ظالمين} ليعم ظلمهم أنفسهم بما جرّوه على أنفسهم من سلب النعمة، وظلم المساكين بمنعهم من حقهم في المال.
وجرت حكاية جوابهم على طريقة المحاورة فلم تعطف وهي الطريقة التي نبّهنا عليها عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30).
ولما استقرّ حالهم على المشاركة في منع المساكين حقّهم أخذ بعضهم يلوم بعضا على ما فرط من فعلهم: كل يلوم غيره بما كان قد تلبس به في هذا الشأن من ابتكار فكرة منع المساكين ما كان حقا لهم من حياة الأب، ومن الممالاة على ذلك، ومن الاقتناع بتصميم البقية، ومن تنفيذ جميعهم ذلك العزم الذميم، فصوّر قوله: {فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون} هذه الحالة والتقاذف الواقع بينهم بهذا الإِجمال البالغ غاية الإِيجاز، ألا ترى أن إقبال بعضهم على بعض يصور حالة تشبه المهاجمة والتقريع، وأن صيغة التلاوم مع حذف متعلق التلاوم تصوّر في ذهن السامع صورا من لوم بعضهم على بعض.
وقد تلقى كل واحد منهم لوم غيره عليه بإحقاق نفسه بالملامة وإشراك بقيتهم فيها فقال كل واحد منهم: {يا ويلنا إنّا كنّا طاغين} إلى آخره، فأسند هذا القول إلى جميعهم لذلك.
فجملة {قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين} إلى آخرها يجوز أن تكون مبينة لجملة {يتلاومون} أي يلوم بعضهم بعضا بهذا الكلام فتكون خبرا مستعملا في التقريع على طريقة التعريض بغيره والإِقرار على نفسه، مع التحسر والتندم بما أفاده {يا ويلنا} وذلك كلام جامع للملامة كلها ولم تعطف الجملة لأنها مبينة.
ويجوز أن تكون جواب بعضهم بعضا عن لومه غيره، فكما أجمعوا على لوم بعضهم بعضا كذلك أجمعوا على إجابة بعضهم بعضا عن ذلك الملام فقال كل ملُوم للائِمِه {يا ويلنا إنا كنّا طاغين} إلخ جوابا بتقرير ملامه والاعتراف بالذنب ورجاء العفو من الله وتعويضِهم عن جنتهم خيرا منها إذا قبل توبتهم وجعل لهم ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة، فيكون ترك العطف لأن فعل القول جرى في طريقة المحاورة.
والإِقبال: حقيقته المجيء إلى الغير من جهة وجهه وهو مشتق من القُبُل وهو ما يبدو من الإِنسان من جهة وجهه ضد الإِدبار، وهو هنا تمثيل لحال العناية باللّوم.
واللوم: إنكار متوسط على فعل أو قول وهو دون التوبيخ وفوق العتاب، وتقدم عند قوله تعالى: {فإنهم غير ملومين} في سورة المؤمنين (6).
والطغيان: تجاوز الحدّ المتعارف في الكِبْر والتعاظم والمعنى: إنا كنا طاغين على حدود الله.
ثم استأنفوا عن ندامتهم وتوبتهم رجاءهم من الله أن يتوب عليهم فلا يؤاخذهم بذنبهم في الآخرة ولا في الدّنيا فيمحو عقابه في الدنيا محوا كاملا بأن يعوضهم عن جنتهم التي قدر إتلافها بجنة أخرى خيرا منها.
وجملة {إنا إلى ربّنا راغبون} بدل من جملة الرجاء، أي هو رجاء مشتمل على رغبة إليه بالقبول والاستجابة.
والتأكيد في {إنا إلى ربّنا راغبون} للاهتمام بهذا التوجه.
والمقصود من الإِطناب في قولهم بعد حلول العذاب بهم تلقين الذين ضرب لهم هذا المثل بأن في مكنتهم الإِنابة إلى الله بنبذ الكفران لنعمته إذ أشركوا به من لا إنعام لهم عليه.
روي عن ابن مسعود أنه قال: بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم جنة يقال لها: الحيوان، ذات عنب يُحمل العنقودُ الواحد منه على بغل.
وعن أبي خالد اليماني أنه قال: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم.
وقرأ الجمهور {أن يبْدِلنا} بسكون الموحدة وتخفيف الدال.
وقرأه نافع وأبو عمرو وأبو جعفر {يُبدِّلنا} بفتح الموحدة وتشديد الدال وهما بمعنى واحد.
قال ابن الفرس في (أحكام القرآن): استدل بهذه الآية أبو محمد عبد الوهاب على أن من تعمد إلى نقص النصاب قبل الحول قصدا للفرار من الزكاة أو خالط غيره، أو فارقه بعد الخلطة فإن ذلك لا يسقط الزكاة عنه خلافا للشافعي.
ووجه الاستدلال بالآية أن أصحاب الجنة قصدوا بجذ الثمار إسقاط حق المساكين فعاقبهم الله بإتلاف ثمارهم.
{كذلِك الْعذابُ ولعذابُ الْآخِرةِ أكْبرُ لوْ كانُوا يعْلمُون (33)}
رجوع إلى تهديد المشركين المبدوء من قوله: {إنا بلوناهم} [القلم: 17]، فالكلام فذلكة وخلاصة لما قبله وهو استئناف ابتدائي.
والمشار إليه باسم الإشارة هو ما تضمنته القصة من تلف جنتهم وما أحسوا به عند رؤيتها على تلك الحالة، وتندمهم وحسرتهم، أي مثل ذلك المذكور يكون العذاب في الدنيا، فقوله: {كذلك} مسند مقدم و{العذاب} مسند إليه، وتقديم المسند للاهتمام بإحضار صورته في ذهن السامع.
والتعريف في {العذاب} تعريف الجنس وفيه توجيه بالعهد الذهني، أي عذابكم الموعد مثل عذاب أولئك والمماثلة في إتلاف الأرزاق والإِصابة بقطع الثمرات.
وليس التشبيه في قوله: {كذلك العذاب} مثل التشبيه في قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143]، ونحوه ما تقدم في سورة البقرة بل ما هنا من قبيل التشبيه المتعارف لوجود ما يصلح لأن يكون مشبها به العذابُ وهو كون المشبه به غير المشبه، ونظيره قوله تعالى: {وكذلك أخْذُ ربّك إذا أخذ القرى وهي ظالمة} [هود: 102] بخلاف ما في سورة البقرة فإن المشبه به هو عين المشبه لقصد المبالغة في بلوغ المشبه غاية ما يكون فيه وجه الشبه بحيث إذا أريد تشبيهه لا يلجأ إلاّ إلى تشبيهه بنفسه فيكون كناية عن بلوغه أقصى مراتب وجه الشبه.
والمماثلةُ بين المشبه والمشبه به مماثلة في النوع وإلاّ فإن ما تُوعدوا به من القحط أشد مما أصاب أصحاب الجنة وأطولُ.
وقوله: {ولعذاب الآخرة أكبر} دال على أن المراد بقوله: {كذلك العذاب} عذاب الدنيا.
وضمير {لو كانوا يعلمون} عائد إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله: {بلوناهم} [القلم: 17]، وهم المشركون فإنهم كانوا ينكرون عذاب الآخرة فهددوا بعذاب الدنيا، ولا يصح عوده إلى {أصحاب الجنة} [القلم: 17] لأنهم كانوا مؤمنين بعذاب الآخرة وشدته. اهـ.